عالم سمسم للمسرح
أسرة عالم سمسم للمسرح ترحب بكم وترحب بآرائكم ومشاركتكم فى المنتدى
عالم سمسم للمسرح
أسرة عالم سمسم للمسرح ترحب بكم وترحب بآرائكم ومشاركتكم فى المنتدى
عالم سمسم للمسرح
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
عالم سمسم للمسرح

أدب - فن - مسرح - ثقافة نقد تراث
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  
قريبا بالاسواق المجموعة القصصية الأولى البهلوان للكاتب والصحفى والمخرج المسرحى سامى النجار دراسة وتقديم الروائى وكاتب الأطفال فريد محمد معوض
انتظروا جريدة الموعد الرياضية فى ثوبها الجديد
قريبا فى الأسواق مجلة دنيا النجوم فى ثوبها الجديد أجرئ الحوارات الصحفية أخبار أهل الفن و الأدب
سامية والذئب مجموعة قصصية للأطفال للكاتب سامى النجار
سلوى والمكتبة قصص جديدة للأطفال للكاتب سامى النجار
قريبا بالاسواق رواية عيون تلمع فى الخريف للكاتب محمود عبد الله محمد والتى سوف يحولها الكاتب إلى مسلسل تلفيزيونى
صدور المجموعة القصصية حكايات الجد مشعل للكاتب محمود عبد الله محمد عن الهيئة العامة للكتاب وهى مجموعة قصص للطفل
تحت الطبع مسرحية الفراشة الزرقاء وهى مسرحية للطفل للكاتب سامى النجار
قريبا بالاسواق ديوان شعرى جديد بعنوان آه يا بلد للكاتب سامى النجار
صدور المجموعة القصصية ريحان والحقيبة البنية للكاتب محمود عبد الله محمد
أسرة عالم سمسم ترحب بالميدع زين العابدين فمرحبا به ونتمنى منه المشاركة بأعمالة الرائعة

 

 حكايات الجد مشعل رواية للطفل محمود عبد الله محمد

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
سامى النجار
رئيس مجلس الإدارة
سامى النجار


عدد المساهمات : 88
تاريخ التسجيل : 24/02/2010
العمر : 57
الموقع : https://samypress.yoo7.com

حكايات الجد مشعل رواية للطفل محمود عبد الله محمد Empty
مُساهمةموضوع: حكايات الجد مشعل رواية للطفل محمود عبد الله محمد   حكايات الجد مشعل رواية للطفل محمود عبد الله محمد Icon_minitimeالأربعاء 24 فبراير 2010 - 22:07

حكايات
الجد مشعل

رواية للطفل
8 : 16
تأليف محمود عبد الله محمد

الفائزة بجائزة السيدة / سوزان مبارك
عام 2001 / 2003

14 قصة تدور كلها في قرية مصرية ، وتدل بوضوح على أن المؤلف لديه خبرة عميقة وحب قوى لقريته المصرية.
كل قصة تدور حول لقطة ذكية موحية ، يلتقطها المؤلف من أحداث القرية اليومية ، لكنها تلقي ضوءاً كاشفاً على أسرار الناس والحياة في القرى المصرية .
تنتقل القصص من كُتاب القرية ، إلى بئر الساقية ، إلى حلاق القرية ، إلى الأطفال الذين يسيرون المسافات الطويلة للوصول إلى مدارسهم ، إلى الوباء الذي يفتك بالفلاحين ، إلى زيارة الأميرة التي كانت تملك "أرض القرية وما حولها" ، إلى انعكاس قضية الأسلحة الفاسدة سنة 1948 على أهل القرية وحياتهم ، إلى أول جهاز راديو يدخل القرية ، وصولاً إلى فصول محو الأمية.
إنه عالم القرية الغنى المتنوع الخصب ، الذي لا يكاد يعرف عنه ابن المدينة شيئاً كثيراً .
مع لغة سليمة ، وقدرة متميزة على السرد والحكي .
أ. يعقوب الشاروني.
1
ذات يوم جلس الأولاد والبنات إلى جوار الجد "شمس النهار " عفواً الجد "مشعل"كما يحلو له أن تـناديه الناس دائماً .. وطلبوا منه .. أن يحكي لهم عن قريتـنا.. عن سامول محبوبته وعن نفسه .. عن بئر الِشباح .. وعن فضيلة والأرض .. وعن غبريال وحزو ويوسف الأعرج .. وعن مديحة وكيف تعلمت .. وعن سلطان والسيد حسب النبي .. وعن شهداء سامول والأميرة نعمت الله كمال الدين.
فقال الجد : موافق. ولكن بشرط .. سأحكي لكم كل يوم حكاية واحدة فقط.
ثم راح الجد يحكي الحكايات من أولها .. وكانت أولها ….

حكاية
الشهادة الحق
كان ذلك عام 1912 .. وقتها كان الذين يُجيدون القراءة والكتابة لا يتعدون أصابع اليد الواحدة .. كما كان جميع آل القرية باستثناء القليل منهم .. يعملون في "وسية" الأميرة الصغيرة "نعمت الله كمال الدين" لكن أبي رحمه الله .. أصر على أنني اذهب إلى كُتاب "الشيخ رمضان" كي احفظ القرآن الكريم .. فذهبت مع الأولاد .. وحفظت من القرآن نصفه تقريباً .
وذات خميس .. إذ أن الشيخ رمضان كان يتركنا كل خميس .. ويذهب ليرتل القرآن بالمنازل .. ولا يعود إلينا إلا بعد ساعة أو ساعتين .. فيّسمع منا ما حفظناه وجودناه من القرآن الكريم طوال غيابه .. لكننا كنا لا نحفظ ولا نجود .. بل كنا ننتظر يوم الخميس على أحر من الجمر لنلعب ونمرح .. عد الولد "سمير" .. فهو الوحيد الذي كان يحفظ ويجود بصوته الرائع .. كم نصحنا وكم تمنى لو نجلس معه ونتسابق في حفظ وتجويد القرآن الكريم .. بعض مرات كنا نطيعه .. لكنه كان دائماً يتفوق علينا .. لم يستطع أحد منا أن يباريه مرة واحدة .
في هذا الخميس بالذات قال لي : لا تذهب إلى اللعب اليوم .. وتعالى معي نرتل القرآن الكريم ونحفظ منه ما نستطيع .. فوافقته على الفور .. وما إن عرف سالم بذلك .. حتى جاءني وقال لي : لا يا شمس النهار .. كله إلا هذا اليوم بالذات .. هل نسيت ؟ أنت حارسنا اليوم .. ستقف أمام الكُتاب وترقب الطريق من بعيد .. حتى لا يعود سيدنا فجأة .. فيرانا ونحن نلعب ونلهو .. تعالى وقم بدورك هذا الخميس .. وفي الخميس القادم افعل ما تشاء .
الكل يهاب "سالم" ولا أحد يستطيع أن يعصي له أمراً .. عدا سمير .. فأخذت مصحفي وجلست أمام الشارع .. لأقوم بدور الحارس فاستطلع قدوم سيدنا عندما يأتي .. فأخبرهم .. ويعودون إلى أماكنهم ويرتلون القرآن ترتيلاً .. ولكن سميراً لم يتركني .. جاء وجلس إلى جواري والأولاد من حولنا يلعبون .. ثم رحنا نرتل القرآن الكريم بصوت عذب تارة ونسّمع ما حفظناه تارة أخرى .. وسالم يحذرني بين الحين والحين .. ولا أعبأ به .. ورحت أتبارى مع سمير في حفظ القرآن الكريم وتلاوته .. قضينا وقتاً ممتعاً مع كتاب الله .. ومازال الأولاد من حولنا يضحكون ويمرحون .. فمر الوقت سريعاً .. ولم اشعر أو يشعر أحد غيري إلا وسيدنا واقف بيننا ويصيح فينا غاضباً .. فهرولنا جميعاً إلى داخل الكُتاب .. ثم جلس على مقعده وطلب العصا من سمير .. فسمير معروف لدى سيدنا بأنه لا يلعب في وقت العلم والجد .. ولا يثير شغباً مثلنا .. فجرى سمير ليحضر العصا .. بينما كان سالم ينظر نحوي وهو غاضب ويهمس لي : أرأيت جزاء انشغالك عن حراستنا ؟ لا تعتقد انك ستفلت من عقاب سيدنا .. أنا سأبلغه بأنك كنت تشاركنا اللعب .
وأخذ الشيخ العصا من سمير ولوح بها في الهواء متوعداً وهو يقول :
- ها .. كونوا شجعاناً .. من كان يلعب يخرج بنفسه مع سالم إلى جوار السبورة .
وحاول سالم أن يدافع عن نفسه بالباطل .. فقاطعه الشيخ رمضان قائلاً :
- صه يا سالم .. لا أحد هنا يحرضهم على اللعب غيرك .
فخرج الجميع عدا سمير وأنا .. ولكن سالماً لم يتركني في حالي .. ابلغ سيدنا بأنني كنت معهم .. ارتعد جسدي بشدة .. أول مرة أخاف سيدنا بهذا الشكل ... وأول مرة أشعر بالألم قبل أن تصيبني عصاه .. لكن سميراً صديقي قام على الفور وتقدم إلى سيدنا وأخبره بأنني لم ألعب .. بل كنت معه احفظ وأجود القرآن الكريم .. فسأل سيدنا الأولاد .. نظر سالم إليهم بعينين تنبئا عن غضبه .. فخاف الأولاد منه .. وزاد الخوف في صدري .. فقال الأولاد:
- نعم يا سيدنا .. شمس النهار كان يلعب معنا منذ الصباح .
فجعلوا سيدنا في حيرة .. الكل يؤكد له أنني كنت العب .. وسمير ينفي ..هم أغلبية .. لكن سميراً لا يكذب .. فكر سيدنا قليلاً وقال : الفيصل عندي سيكون كتاب الله .. تعال يا شمس النهار واسمعني ما حفظته اليوم .
ويا لسعادتي بهذه الشهادة .. جاء الفرج .. إنها ستكون خير شهادة .. وعلى الفور رحت اُسّمع عليه ما حفظته .. وكانت الابتسامة تعلو وجه صديقي سمير .. بل وجه الشيخ رمضان أيضاً .. لكنه كان كلما نظر إلى سالم والأولاد .. كانت علامات الغضب ترتسم على وجهه .. ومن يومها حرصت على ألا العب في وقت الجد .. ولا أخشى أحداً ما دمت على حق .. وما دمت امتلك البرهان .
  



2
كنت في الرابعة عشرة من عمري .. في هذه الأيام يا أبنائي .. كانت الألعاب المسلية والألغاز ودفء الحكايات .. والمسرحيات التي كان يؤديها بعضنا في الشارع هي السلوى.. أما الليالي التي كان يغيب عنها القمر .. فكان لا أنيس ولا ونيس لي سوى مشعلي .. احمله معي أينما أذهب .. إلى الجامع .. أو لزيارة الأقارب والأصدقاء . . أو عند ذهابي إلى الحفل في الليل .. خشية أن تتعثر قدماي في حفرة أو اصطدم بحائط أو جذع شجرة .. كما حدث لي يوم أن وقعت في بئر الساقية الذي كان يقال عنه أنه مسكون بالجان .
حكاية
بئر الأشباح
يومها كنت ذاهباً إلى الحقل لأساعد أبي في ري القطن .. غير أن الظلام كان كحائط يسد الطريق أمامي .. والزرع في الحقول معتم .. ولا أحد يستطيع أن يميز القطن من الأرز .. ولكن إصراري وحبي لمساعدة أبي .. جعلني لا أشعر بالخوف من الظلام .. فواصلت المسير وحدي .. لا أنيس معي غير نقيق الضفادع وتلاوة القرآن الكريم .. حتى اقتربت من تلك الشجرة التي يخشاها الكل .. شجرة الجازورين الضخمة والتي يسكنها ثعبان ضخم .
وأنا أمامها تذكرته .. نعم تذكرته .. أنا لا أحب الثعابين ولا أطيق سماع فحيحها .. فتسلل الخوف إلى صدري .. راح جسدي كله يرتعد بشدة .. وأحسست وكأن الثعبان يزحف خلفي .. وعلى الفور تذكرت حديث الشيخ "أبو المجد" شيخ المسجد الكبير وهو يقول :
قرأت عن الثعابين ذات مرة .. أنها بدون آذان .. ولكنها تسمع عن طريق لسانها الحساس للاهتزازات الصوتية .
فكتمت أنفاسي وحاولت أن أسير على أطراف أصابعي .. بل كنت أحيانا استدير إلى الشجرة وأواصل المسير بظهري .. حتى سمعت صوت ارتطام جسم غريب بالماء الجاري بالمرّوَة .المارة أسفل الشجرة .. ساعتها شعرت وكأن زلزالاً قد اجتاح جسدي كله .. وأن الرعب سيقتلني .. ودون أن أشعر انزلقت قدماي في حفرة وكدت أسقط فيها .. لولا أنني غرست أصابعي العشرة بالأرض متشبثاً بها .. وكانت قدماي المتدليتان بالحفرة تبحثان عن القاع دونما جدوى .. تعبت وما عدت أستطيع المقاومة .. انزلقت إلى القاع واقفاً .. إلا أن جسدي المختل وقدمي المتعبتان .. فقدتا الثبات على الأرض الممتلئة بالحجارة .. فسقطت على ظهري .. وشعرت وكأن عظامي قد تفتت .. وأن رأسي قد شجت إلى نصفين .. لكنني بعد فترة من الترقب والخوف تمالكت بعض الشيء .. ورحت أتحسس المكان من حولي بيدٍ خائفة مرتعدة .. ثم اتكأت على جدار الحفرة ونهضت .. وعندئذ .. عرفت أنني سقطت في بئر الأشباح .. اقصد بئر الساقية المهجورة منذ سنين .. إنه قريب من شجرة الثعبان .. أقصد شجرة الجازورين .. لقد ساقني خوفي إليه .. لابد أن أخرج من هنا سريعاً .. لكن كيف والألم يجتاح جسدي؟ ما هذا ؟ أحجار؟ نعم تلك أحجار كثيرة متهدمة من جدران البئر .. الآن أستطيع أن اخرج .. سأجعل منها سلماً يساعدني على الخروج سريعاً .
أواه يا ربي .. هذه الأحجار ثقيلة جداً .. هل سأقدر على حملها ؟ كن معي يا رب .. وبعد محاولات كثيرة .. فشلت أن أضع ولو حجراً واحداً فوق الآخر .. فجلست فوق الأحجار ابكي وأنا لا ادري كم مر من الوقت على وجودي داخل البئر .. وفجأة سمعت الأشباح تناديني.. أصوات كثيرة متدافعة تنطق باسمي وتبحث عني :
شمس النهار .. يا شمس النهار .. أين أنت يا شمس النهار ؟
فنهضت من مكاني مرتبكاً .. لا أعرف ماذا أفعل والأشباح تناديني ..
بسم الله الرحمن الرحيم " قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس"
ولكن الأشباح ما زالت تناديني .. تقترب مني وتبتعد أصواتها :
شمس النهار .. يا شمس النهار .
كانت تقلد صوت أبي .. أبي ؟ .. أبي الآن بالأرض يروي القطن ..
شمس النهار .. يا شمس النهار .. شمس النهار يا ولدي .
ويقلدون صوت جدي !! لا لا .. لن أخدع أيها الأشباح .. وفجأة برق ضوء احمر داخل البئر .. ثم اقتربت الأصوات أكثر وأكثر .. صارت على بعد أمتار قليلة مني .. فانزويت إلى أحد أركان البئر حتى لا تراني .. ورويداً رويداً .. كسى المكان ضوء كبير .. ثم سمعت الشبح الذي كان يقلد صوت جدي وهو يقول:
أذهب يا نور الدين إلى هذا البئر وابحث في عن ولدك شمس النهار .
فرد عليه الشبح الذي كان يقلد صوت أبي : عندك حق يا أبي .. لقد بحثنا في كل مكان وبقى هذا البئر الملعون .
وراحت دبيب أقدام الشبح تخطو نحوي ببطء شديد ..
ورحت أنا التصق بجدار البئر أكثر وأكثر .. وأنا اقرأ سورة الناس بطريقة آلية .. ولكن الشبح لم ينصرف .. بل مد مشعله إلى البئر وهو يحركه وينادي .
شمس النهار .. يا شمس النهار .
ولما رآني في ضوء المشعل .. صرخ بأعلى صوته :
يا أهل البلد .. يا أهل سامول .. شمس النهار في البئر .. يا أبي شمس النهار هنا .
ثم وثب إلى قاع البئر .. ولكنني لم أخف منه .. بل فرحت به .. لأنني عرفته من صوته.. من لهفته عليّ .. إنه أبي .. ارتميت على صدره وأنا ابكي بكاءً مراً .. غير أن قدميه قد جزعت ولم يستطع النهوض .. فضمني إليه بشدة وراح يقبلني .. وما إن نظرت إلى أعلى .. حتى رأيت جدي وكل أهل قريتنا سامول .. وهم يحملون المشاعل .. فمدوا إلينا حبلاً قوياً .. تعلق به أبي بعد أن رفعني فوق كتفه .. ثم راحوا يرفعوننا إليهم .. وما إن خرجنا .. حتى رفعوني على أعناقهم .. وهم يغنون طوال طريقنا إلى القرية .. التي عدنا إليها مع شروق شمس نهار جديد .. ومن يومها وأنا لا احب الظلام ولا أطيقه .. لذا قررت أن يكون لدي مشعل .. فأحضرت تيلاً من الكتان ويداً خشبية من شجر التوت .. وصنعت مشعلي .. وكنت لا أتركه في أوقات الظلام حتى ألفني الناس على هذا الشكل .. فكانوا يتمنون لو يصادف طريقهم طريقي ويأنسون بمشعلي .
3
ولما كانت الناس في القرية تمازحني .. وتناديني باسم مشعل نسبة لمشعلي .. غضبت كثيراً من هذه التسمية .. فأنا احب اسمي ولا أطيق أن يناديني أحد بغيره .. لذا قررت أن لا أرد إلا على من يناديني بشمس النهار .
حكاية
منصور والحلاق
وذات ليلة أحاطني بعض من الأطفال الأشقياء .. وراحوا يتبعونني في كل مكان وهم يصيحون خلفي :
مشعل .. يا أبا مشعل .. يا مشعول .
والحق تضايقت كثيراً .. بل كادت تفلت أعصابي .. لكنني سرعان ما تمالكت وحاولت قدر استطاعتي أن أثنيهم عما يفعلون .. مرة بالابتسامة .. ومرة وأنا اذكرهم باسمي الحقيقي .
ولما لم يستحوا مني ونفد صبري وتملكني غيظ شديد .. جريت خلفهم .. فتفرقوا وجرى كل واحد منهم في شارع أو حارة .. حتى ابتعدوا وتاهوا عن مشعلي في ظلام حالك .. وبعد لحظات سمعت صوت أحدهم يصرخ .. فتتبعت الصوت وأنا ابحث عنه .. ولما وجدته كان راقداً إلى جوار حائط الزاوية والدم يسيل من رأسه .. ارتعد جسدي بشدة .. وحاولت أن أوقف له نزيف الدم دونما جدوى .. فالجرح يبدو غائراً ويلزمه حلاق الصحة على الأقل .. فحملته على كتفي الأيمن بينما ظل مشعلي بيدي اليسرى .. وسرت به إلى حلاق الصحة .. حيث لا يوجد أطباء إلا بالمدينة .. ولابد من إيقاف نزيف الدم فوراً .
في الطريق عرفت أنه الحاج "منصور باشا" خولي المصلحة في وسية الأميرة "نعمة الله كمال الدين ".. عفواً .. اقصد الولد منصور .. فهو كان مازال ابن التاسعة .. وكان يتيم الأبوين .. يعيش مع زوجة أبيه التي كانت تنهره ولا تهتم به لوبات بالزاوية أو بالمقابر أو بأجران الغلة .. وراحت دموعي تتساقط على صدري لحال هذا الولد الواهن الجسد .. الذي لا يتعدى وزنه أكثر من عشرة أرطال أو يزيد بقليل .
أنا السبب .. لولا حماقتي واندفاعي ما جريت خلف الأولاد .. وما حدث لمنصور ما حدث .
وضمد له الحلاق الجرح الغائر .. ثم هددني بأنه يجب أن نبلغ عن الحادث .. ولكنه عاد وصفح بحجة أنني ابن رجلٍ طيب كريم .. يعطيه حقه وزيادة في موسم الحصاد .. ثم طلب مني خمسة مليمات دفعة واحدة .. فأعطيته الخمسة مليمات وكانت كل ما في جيبي .. وظللت بعدها أعاني الفقر أسبوعاً كاملاً .. ومن يومها وأنا قررت ألا أغضب ممن يقولون لي "يا مشعل" أو حتى يا مشعول .. ثم رحت أهدئ من روعي :
- هل اسم مشعل عيباً ؟ .. بالعكس .. اسمٌ جميل وله معنى كشمس النهار تماماً .
ورويداً رويداً تناسي الناس أسمي الذي ولد معي .. حتى كدت أنساه أنا الآخر .


4
- أنا لا أجيد الكتابة يا فضيلة الشيخ .
- تقرأ ولا تكتب! .. معقول يا شمس النهار ؟! .. حافظ للقرآن ولا تكتب حتى اسمك؟ هذا والله عجباً !!.
ثم طلب مني بعد أن انتهى من عقد قراني .. أن اذهب إليه في الكتّاب ليعلمني القراءة والكتابة .. في البداية فرحت كثيراً .. العلم نور .. لكنني سرعان ما تراجعت وقلت لنفسي : كيف ؟ أي كتابة أتعلمها وأنا في هذا السن ؟ ويا ليتني ذهبت إلى الشيخ وتعلمت !!
حكاية
تعليم سلطان
ومرت الأيام سريعة .. حتى رزقني الله مولوداً جميلاً أسميته سلطان .. كان طفلاً ذكياً أيضاً .. شكرت ربي من أجله كثيراً .. لذا كان لابد أن أعلمه حتى لو كنت سأبيع من أجله الدار.. وكان عام 1930 هو موعد دخوله المدرسة .. وعلى الفور وبلا تردد ذهبت به إلى مدرسة التوفيق بالمحلة الكبيرة .. وألحقته بها .. ثم استأجرت له مسكناً قريباً من المدرسة .. وكان يغيب عنَّا بالأسبوع .. وأحياناً بالأسبوعين إلا أنني كنت أزوره في وسط الأسبوع .. وكنت لا أكتفي بما يتعلمه .. بل كنت أجلس معه عندما يأتي لزيارتنا في سامول .. خميس وجمعة .. وأحفظه من القرآن ما يستطيع أن يحفظ .. حتى صار متفوقاً .. لكن قيام الحرب العالمية الثانية في آخر الثلاثينات .. جعلتني أخشى عليه من البقاء في المدينة بمفرده .. خاصة وبعد أن سمعنا حديث الشيخ أبو المجد .. عن الدمار الذي أصاب العالم من جراء هذه الحرب .. وعن حالة العشوائية التي أصابت المدن الكبرى .. بسبب خوفها من أن تتعرض لقذف مباغت.. كما حدث لمدن كثيرة .. لذا قررت عودته إلى القرية مكتفيا بما تعلم .. لكن سلطان غضب غضباً شديداً .. وأخذ يرجوني أن أتركه حتى يكمل تعليمه .. وأكثر من ذلك فقد ذهب إلى الشيخ أبو المجد في المسجد وطلب منه أن يتوسط له عندي .
وذات ليلة جاءنا الشيخ أبو المجد .. وكنت جالساً مع أبي نور الدين .. فسعدنا به كثيراً.. فزيارته لأبي تثير البهجة في نفوسنا .. سلم على أبي وجلس إلى جواره .. وبلا مقدمات أخذ ينقل لنا رغبة سلطان وحبه لتكملة مشوار التعليم .. وأنه هو أيضاً مؤيده في ذلك .. خاصة وأن مدينة المحلة الكبيرة .. بعيدة كل البعد عن الحرب .. عند ذلك أردف أبي قائلاً :
دع ولدك يا شمس يكمل تعليمه .. من يدرى .. ربما أصبح طبيباً فيعالجني من هذا الربو اللعين .. أو عالماً كبيراً كجده الشيخ أبو المجد .
واستعنت بالله وألغيت فقط فكرة المسكن بالمدينة .. لكنني كنت كل يوم بعد صلاة الفجر اصحبه إلى المدرسة في مدينة المحلة الكبيرة .. في ضوء مشعلي .. ولا أعود إلا معه في الظهيرة .. كانت معاناة سببتها لي وله الحرب .. إذ أننا في أحياناً كثيرة كنا نذهب إلى المدينة سيراً على الأقدام .. ويا ليتها دامت تلك الأيام .. لقد تعلمت خلالها كيف أكتب الحروف الأبجدية.. إذ كان كل يوم يعلمني سلطان حرف أو حرفين .. حتى اشتدت الحرب وزادت كوارثها .. عندما سمعنا أن أمريكا ستضرب جميع المدن الكبيرة .. التي ستقف ضد مصالحها بالقنابل الذرية .. وجلست أنا وأمه نضرب أخماسا في أسداس .. نفكر في حيلة نقنع بها سلطان كي يكتفي بما تعلم .. وبعد جدال طويل معه .. استطعت أن أقنعه بحيلة أنني احتاجه معي في فلاحة الأرض .. خاصة بعد وفاة جده نور الدين .
وانتهت الحرب لما أخبرنا الشيخ بأن الألمان قد هزموا في العلمين .. وهيئ لنا أن الأعياد قد عادت .. وأن أزهار جديدة ستولد .. وأن الدنيا سيعود إليها صفاؤها ونقاؤها .. وها هو سلطان يعد نفسه من جديد وبإصرار على تكملة مشوار التعليم .. وها أنا أعد نفسي لأكمل معه المشوار وأتعلم الكتابة .
  

5
ولم تدم فرحتنا بانتهاء الحرب غير أيام أو شهور قليلة .. فوباء الكوليرا قد اجتاح القرية بأكملها .. وقتل منها أعدادا كثيرة من الناس .. ففي خلال يومين فقط .. كان هذا المرض قد طرق كل البيوت .. ولم يفلت بيتاً واحداً من هذا الوباء اللعين .. إلا وقد شيع نفراً منه .. هاااه .. رحمك الله يا أم سلطان .. وأنت أيضاً يا حامد يا تركي يا شيخ البلد .
حكاية
شيخ البلد
كان اليوم صعباً جداً .. فالموتى وصل عددهم إلى خمسين فرداً وزيادة .. والإحساس بالموت في أي لحظة .. قد سيطر على جميع الناس بالقرية .. وقتها كان حزني على أم سلطان شديداً .. لدرجة جعلتني أشعر بأن كل شيء قد صار لونه أسود .. جدران المنازل ونوافذها وأبوابها لونها أسود .. حتى السحب في ذلك اليوم قد صارت سوداء حالكة .. ورحت أمشي في شوارع سامول .. كيفما تجرني قدماي .. وكنت التقي بجماعات من الناس يرتدون السواد .. ويستعدون للرحيل .. وكلما سألت أحدهم .. كان يجيبوني بأنه ذاهب إلى الحقول ليعيش وسط الخضرة .. بعيداً عن تلك القرية الموبؤة .. حتى شيخ البلد .. رأيته يستعد مع زوجته وولداه حسان وفضيلة للرحيل أيضاً إلى الحقول الخضراء .. فاندفعت ناحيته .
ماذا تفعل يا شيخ البلد ؟
مشعل ؟ لما لم تهرب كما يهرب الناس ؟ اللعنة حطت على البلد .. هيا يا رجل تعالى معي إلى حوض الساقية .. انج بنفسك وبأهلك يا مشعل .
وأخذت أساعده في نقل أمتعته .. ولما انتهينا من تحزيمها ووضعتها على ظهر حماره.. حملنا في أيدينا ما تبقى منها .. ثم اتجهنا بعدها للحقول .. ولكننا أثناء سيرنا إلى حوض الساقية.. مال عليّ شيخ البلد وهمس في أذني :
أشعر بألم وانتفاخ في بطني يا مشعل .
طمأنته رغم القلق الذي انتابني .. قلت له :
ربما كان ذلك من أثر طعام الإفطار .. ماذا تناولت اليوم ؟ .
لكنه لم يستطع أن يرد على سؤالي .. بل اخذ يصرخ :
سأموت .. سأموت يا مشعل .
وعلى الفور أنزلنا ما كان على ظهر الحمار .. وحملنا بدلاً منه شيخ البلد الذي بدا مغشيا عليه .. وقبل أن نعبر الجسر الذي يربط القرية بحوض الساقية .. بخطوات قليلة .. كانت قد فاضت روحه إلى خالقها .. فازدادت حالة اليأس بداخلي .. وكان من الضروري أن تلغى الرحلة إلى الحقول الخضراء .. ونبدأ في دفن جثة شيخ البلد .. فعدت أنا وحسان بعد أن تركنا الزوجة وابنته فضيلة إلى جوار جثته .. لنبحث معاً عن نعشٍ نحمله فيه إلى المقابر .. ولأنه كان نعشاً واحداً بالقرية .. ولأن القرية كانت في تلك الأيام تحتاج إلى أكثر من نعش .. فكرامة الميت في سرعة دفنه .. حملته أنا وزوجته وحسان وفضيلة .. فوق سلم خشبي إلى المقابر .. ثم تعاونا في دفنه .. وبعدها عاد حسان مع أمه وأخته .. وجلست أنا إلى جوار قبر أم سلطان لأقرأ لها ولأمواتنا جميعاً الفاتحة .
  

6
وفي المساء وعند قبر أم سلطان زوجتي .. جاءني سلطان حاملاً مشعلي وكان معه حسان .. جاءني بعد أن بحث عني في كل مكان .. نظر إلى طويلاً ثم ارتمى في صدري .. واخذ يقبلني وهو يبكي .. ساعتها فقط شعرت وأن شيئاً ثقيلاً قد رفع عن كاهلي ... وأنني أستطيع السير من جديد .. فأخذت المشعل منه وتقدمتهما ناحية الدار بالقرية .
حكاية
زيارة الأميرة
وعند عودتنا من المقابر .. كانت هناك حركة غير عادية داخل قصر الأميرة نعمة الله كمال الدين .. حيث أنوار المصابيح تطل بأضوائها من الداخل إلى الساحة الوسيعة أمام القصر.. وكان منصور باشا خولي المصلحة .. واقفاً في هذه الساحة الوسيعة .. ويبدو عليه القلق والتوتر .. وما إن وقعت عيناه على مشعلي حتى عرفني .. وهرول ناحيتي وهو يناديني .
عم مشعل .. يا عم مشعل .. الأميرة حضرت لزيارة القرية ولديها أخبار سارة بخصوص مياه الشرب .. لكن أين الناس ؟ أين العمدة وشيخ البلد .. لا أحد هنا يستقبل الأميرة ومن معها .. أنها غاضبة بالداخل .. أيرضيك هذا ؟ لا أحد في استقبالها ؟ .
وعلى الفور اندفعت ناحية القصر .. ما كنت أستطيع أن اترك تلك الفرصة الثمينة تضيع مني .. القرية ستقضي عليها الكوليرا والأميرة بالداخل لا يشغلها سوى عدم استقبال أهل القرية لها .
- وأين هي ؟ .. ومياه شرب ماذا يا منصور ؟ .. ألم تحدثها عن الكوليرا وعن الذين يلقون حتفهم كل ساعة وكل لحظة ؟
- واحدة واحدة على الأميرة يا عم مشعل .. أرجوك أرسل سلطاناً إلى العمدة وحسان إلى والده .. يجب أن يحضر الاثنان فوراً .
ولم اشعر بنفسي إلا وأنا مندفع إلى داخل القصر بعد أن تركت المشعل مع سلطان .
- تقول شيخ البلد يحضر يا منصور وفوراً ؟! أين الأميرة ؟ هل جاءت كعادتها للنزهة بين الحقول الخضراء .. والاستمتاع بهتافات الفلاحين لها ؟!
فاندفع منصور خلفي محاولاً منعي بآية طريقة
- ماذا تقول يا عم مشعل .. ألم تستح يا رجل ؟ أنها الأميرة التي جاءت من أجل حل مشكلة مياه الشرب .. ليتني ما حدثتك .. هل تريد يا رجل أن تقطع رزقي من هنا ؟!
- كل هذا لا يهمني .. أين الأميرة يا منصور ؟
وخرجت الأميرة من غرفة مكتبها وخلفها عدد من الرجال والنساء .
- أنا الأميرة .. أتركه يا منصور .. تعالى يا ...
مولاتي الأميرة .. القرية ستموت لو لم تفعلي شيئاً .. أنت بالذات يا مولاتي يجب أن تتحركي من أجلنا .. أرجوك .. وأشارت إلىّ الأميرة لأقترب منها فاقتربت
- اطمئن يا .....
وقبل أن انطق وأقول لها شمس النهار .. سبقني منصور واخبرها أن اسمي مشعل .
- اطمئن يا مشعل .. سنحل مشكلة مياه الشرب إلى الأبد .. لقد أمرت لكم ببناء محطة كبيرة لتنقية مياه الشرب .. وستبنى في خلال عام على الأكثر إن شاء الله .
مياه شرب ماذا يا مولاتي .. الأمر صار اخطر من أن نشرب من مياه الترعة .. إنها الكوليرا يا مولاتي الأميرة .. الفلاحون يتساقطون واحداً بعد الآخر .. لقد مات حتى الآن عشرون فرداً وزيادة .. من بينهم شيخ البلد .
ودهشت الأميرة .. بل وتسمرت في مكانها هي ومن معها من هول الصدمة وأخذت تردد جملة واحدة بشكل هستيري كوليرا .. رحماك يا ربي ، ثم صوبت نظراتها إلى منصور الذي كان وجهه يتصبب عرقاً من شدة الخوف وأردفت قائلة :
لما لم تخبرني يا منصور بالتليفون ؟ لو أخبرتني لأحضرت معي فريق من الأطباء .. ماذا افعل أنا الآن ؟
وقبل أن ينطق منصور بكلمة واحدة .. واصلت الأميرة حديثها :
كوليرا !! مسكينة يا قريتي الحبيبة .. منذ متى أصاب قريتي هذا المرض يا مشعل ؟
ثم جلست على مقعدها وكأنها قد أغشى عليها من هول ما سمعت .. وبعدها بلحظات انتفضت واقفة وهي توجه حديثها إلى أحد رجالها :
يجب أن يكون لقريتي مستشفى .. هذا أمرٌ واجب التنفيذ .. ومن هنا وحتى يتم بناء المستشفى .. اطلب فريقاً من الأطباء يعمل ليل نهار من اجل علاج مرضى قريتي .. هيا .. التليفون أمامك نفذ فوراً .
ولم تسعني الدنيا من فرط سعادتي .. إلا أنني عندما تذكرت أن المرض معدٍ .. وأن حياة الأميرة في خطر شديد .. قمت على الفور بتحذيرها :
مولاتي .. أخشى أن يصاب أحدكم بعدوى الكوليرا .. وجودك بيننا الآن به خطر على حياتك وحياة من معك .
فدمعت عينا الأميرة وهي تتراجع للخلف وتهز رأسها في أسف .. ثم أسرعت بالعودة إلى العاصمة .. بعد أن أمرت ببناء تلك المستشفى عند مدخل القرية إلى جوار محطة مياه الشُرب وعلى خمسة أفدنه من أرضيها .
  
7
ولما غادر وباء الكوليرا اللعين القرية إلى غير رجعة .. عادت إلينا ليالي السهر والسمر .. وراح مشعلي يتلألأ في يدي .. حتى الشحاذين قد عادوا .. والباعة أيضاً عادوا إلى القرية يشترون ويبيعون من جديد .. كان ذلك عام 1947 .
حكاية
استيطان الأرض
حدث كل هذا بسرعة مدهشة .. وأكثر من ذلك .. فقد بات "يوسف الأعرج" ولا أدري لماذا كان اسمه الأعرج .. الذي كان يشتري الأجولة الفارغة والردة .. واحد من أبناء القرية .. كما اشترى له ولحماره داراً بوسط البلد .. وبعد قليل استطاع أن يشتري قطعة ارض زراعية .. باعها له عواد .. ثم ترك التجارة وراح يتعلم الزراعة .. أخذ يتعلمها رويداً رويداً .. حتى صار فلاحاً جيداً يزرع ويحصد .. وعندئذ حاول "حزّو وولده غبريال " .. بائعاً قلادات القشرة .. أن يقلدا يوسف في ذلك .. فاشتريا داراً كبيرة بوسط البلد أيضاً .. ثم راحا يبحثان عن ارض يشترياها .. لكن أحداً لم يبيع لهما .. فجاء حزو إلى يوسف كي يأخذ منه النصيحة والمشورة .. فأشار عليه .. بأن يحاول مرة أخرى مع فضيلة ابنة شيخ البلد .. فربما اقتنعت هذه المرة وباعت .. ثم أردف:
- وإن لم توفق على البيع .. زوجها لولدك غبريال .. البنت وحيدة وتحتاج لمن يرعى معها مصالحها ويقف إلى جوارها .
وبالفعل راح حزو وولده يحاولان إقناعها ببيع ولو قطعة صغيرة من أرضها لهما بحجة المساعدة على العيش .. ولكنها عادت ورفضت .. فهي لا تحب أن تتزوج بواحد من غير قريتها .. ولم ييأسا .. وأخذا يبحثان عن وسيط يستطيع إقناع فضيلة .. فأشركا العمدة وشيخ البلد الجديد .. بل وشيخ الخفراء أيضاً .. ومع ذلك باءت كل المحاولات بالفشل .. وذات يوم جاءني حزو وولده غبريال ويوسف الأعرج .. وطلبوا مني نفس الطلب .. فهم يعرفون جيداً قدري وقدر كلمتي عند فضيلة التي تعتبرني مثل أبيها رحمه الله .. ودون تردد رفضت طلبهم .. بل حذرتهم من أن يضغطوا عليها أكثر من ذلك .. عند هذا الحد اندفع غبريال بحماقة وقال لي:
- لو أقنعتها سنعطيك ما تريد .
ولم أشعر بنفسي إلا وأنا ألطمه على وجهه لطمة قوية .. جعلتا حزو ويوسف يشعران بفداحة ما قاله لي ذلك الحلوف غبريال .. لذا اندفع حزو وأخذ يضربه حتى سال الدم من وجهه.. ولم يكتف بذلك .. بل جذبه من طوق جلبابه وأقسم له لو لم يقبل رأسي ويعتذر لي بشكل لائق .. ما سمى له ولداً .. ثم صرخ في وجهه وقال :
- هيا .
ولم يكن لدي أمام هذا القسم سوى أن اترك رأسي لغبريال يقبلها كيف يشاء .. ثم راح حزّو ومن بعده يوسف الأعرج يعتذران لي أيضاً .. وبعد ذلك استأذنوا بالانصراف .
ولم يمر على ذلك سوى أسبوعين فقط .. يومها كنت ذاهباً إلى الحقل كي أعاون سلطان في حم البرسيم .. إذا أنها كانت الريّة الثانية .. ويجب أن تمتلئ الأرض عن آخرها بالماء .. في الطريق سمعت خبراً غريباً .. وهو أن عبد الغني باشا كاتب الوسية .. سيقتل غبريال .. وسمعت أيضاً أن فضيلة هي السبب وراء ذلك .. وعند الساقية .. رأيت سلطاناً يدور خلف البقرة وهو حزين .. وثائر ... وما إن وقع بصره علىّ .. حتى توقف عن الدوران وقال لي:
- هل علمت ما فعله الحيوان غبريال تجاه فضيلة الليلة الماضية وقبل الماضية ؟
- وماذا فعل هذا الحلوف ؟
- سل عبد الغني .. لا لا .. الأجدر أن تسأل فضيلة نفسها .. إنها قريبة من هنا .. اذهب إليها في أرض الدكاني .. سوف تحكي لك كل شيء .
وعلى الفور اتجهت إليها .. كانت جالسة اسفل شجرة الصفصاف إلى جوار بقرتها وتبكي .
- ما الذي يبكيك يا فضيلة ؟ .. ماذا حدث يا بنيتي ؟
فأخبرتني بأن غبريال يضايقها كلما رآها .. وأكثر من ذلك .. فانه يأتيها في الليل ويجلس اسفل شُباكها الخلفي المواجه للحقول .. والناس نيام .. ويعوي كما تعوي الذئاب في الحقول .. في الليلة الأولى خافت وارتعدت .. بل أكملت ليلتها ساهرة حتى الصباح .. لكنها في الليلة الثانية .. أخذت حذرها من الذئب .. لما أحضرت إلى جوارها سكيناً وعصاً كبيرة .. ثم أقفلت الباب الكبير جيداً .. وفي نفس الميعاد جاءها غبريال واخذ يعوي كما تعوي الذئاب في الحقول .. لكنها هذه المرة عرفته .. من صوته الذي يشبه صوت نهيق الحمار .. عرفته .. لأنه هو الوحيد الذي يود مضايقتها . عرفته . فنهضت من مكانها وحملت آنية فخارية واتجهت بها ناحية باب غرفتها على أطراف أصابعها .. فتحت الباب وراحت تصعد أدراج السلم إلى أعلى.. من فوق السطح أطلت برأسها إلى الشارع .. كان مازال يعوي أسفل الشباك .. رفعت الآنية إلى أعلى وهبطت بها فوق رأسه .. فسقط على الأرض .. من فوق السطح ظلت تراقبه بعينين قلقتين .. ظلت على ذلك لحظات قصيرة .. استطاع خلالها غبريال أن ينهض واقفا ثم غادر المكان .
وكي تتأكد فضيلة أكثر وأكثر من أنه هو غبريال .. أرسلت جارتها في الصباح .. كي تشتري لها عقداً من القشرة .. دون أن تطلعها على ما حدث في الليل .. وراحت الجارة وعادت بالعقد .. فسألتها :
من الذي باع لك العقد ؟ هل غبريال أم حزو ؟
- حزو .. حزو هو الذي باعني إياه .
- خشيت أن يكون غبريال فغبريال يبيع بأسعار غالية .
- يبدو لي أنني سمعت صوت رجل يئن داخل أحد الغرف .. يهيئ لي أنه كان صوته.
وعند هذا الحد أخذت فضيلة من يدها وذهبت بها إلى العمدة .. قدمنا له بلاغاً بما حدث.. وعلى الفور أمر العمدة .. خفراءه كي يأتوه بغبريال .
أمام جميع أهالي القرية .. اخذ العمدة تعهداً مكتوباً على غبريال .. بأن لا يقرب فضيلة بأي أذى أو سوء .. وألا سيعاقب بالطرد خارج القرية .
فوقع على التعهد .. ثم سمح له العمدة بعد ذلك بالعودة إلى داره .. وسط غضب وسخط الجميع عليه .
ولم يمر سوى شهور قليلة .. حتى تقدم لخطبة فضيلة .. عبد الغني باش كاتب الوسية .. فوافقت دون تردد وتم زواجهما .
  

8
وفي العام ذاته .. أفضى إلىّ سلطان بسره .. وهو أنه يود الزواج من ست البنات بنت محي الدين صلاح .. فوافقت وتم الاتفاق بيني وبين محي الدين .. على إتمام الزواج بعد عام .. أي بعد حصاد محصول القطن مباشرة .
حكاية
زواج سلطان
ومرت الأيام سريعاً .. ولكن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن .. كنا يومها بالحقل نجمع القطن ساعة جاءنا الخبر .. خبر استشهاد مسعد بن الشيخ أبو المجد .. فعدنا جميعاً إلى القرية تاركين كل شيء .. ثم اتجهنا إلى الطريق الزراعي .. وعند المستشفى الجديدة جلسنا ننتظر وصول الجثة .. انتظرناها طويلاً .. يومين .. ثلاثة أيام .. أسبوعا بطوله .. ولم تأت الجثة .. وإن كان الأمل ما زال يراودنا .. إلا أننا عدنا إلى حقولنا .. فمحصول القطن بالذات مثل الثوب الأبيض .. يجب الحفاظ عليه من السقوط إلى الأرض .. وتعرضه للأتربة والوسخ مما يقلل من قيمته ... إلا أنا الشيخ أبو المجد .. ترك كل شيء وراح يبحث عن الحقيقة .. سافر إلى العاصمة .. غاب هناك أسبوعين كاملين .. ولما عاد إلينا وجدنا جميعاً في انتظاره ليخبرنا بموعد وصول الجثة .. إلا أن الوجوم المسيطر على وجهه .. والعينان الذابلتان المتحجر فيها الدمع .. قد إحالتنا على الفور إلى حزنا أكثر واكبر .
وفي المسجد يوم الجمعة .. وقف الشيخ على المنبر يخطب فينا .. وكان الدمع يتساقط من عينيه .
- أيها الناس .. لن أطيل عليكم اليوم .. ولن أخوض في كل التفاصيل .. لكنني يكفيني أن أقول لكم : أن الملك وحاشيته قد خانوا الجيش وتسببوا في موت ولدي مسعد .. أعطوه سلاحاً فاسداً .. لا ليدافع به عن نفسه وعن عروبته .. ولكن ليقتل به نفسه .. أيها الناس .. لصالح من يموت مسعد ؟! لصالح من يموت كل الأبرياء ؟! لصالح من يتم تدمير الجيش ؟! ألم يعلم الملك وحاشيته إن عزة الوطن ونصرته أمانة في أعناقهم .. ألم يعلموا بأنهم قد خانوا الأمانة ؟! ألم يعلموا أن خيانة الأمانة من آية المنافقين ؟!
وامتزج حديث الشيخ بالبكاء لدرجة جعلتنا نشعر بالخوف عليه .. ثم صلينا الجمعة .. ومن بعدها صلاة الغائب .. ثم عدنا إلى دورنا والحزن يملأ الصدور لحال الشيخ أبو المجد .. الذي فاجأني بالزيارة وكان معه والد العروس .. فقال لي :
- اسمع يا مشعل .. لقد اتفقت مع محي الدين على إقامة الفرح هذا الأسبوع اعتقد انك أيضاً لن تخالفني في ذلك .. مسعد وسلطان وست البنات .. الثلاثة أبنائي وأنا لا يرضيني أن يتأجل زواج سلطان وست البنات أكثر من ذلك .. ولدي مسعد شهيد في ذمة الله .. أقول كفانا حزناً .. الفرح هو الشيء الوحيد الذي سيعيد إلى البلدة بهجتها .. اعلم أن كل شيء جاهز ولا يبقى سوى أن نٌعلم الناس بموعد الفرح .
ولأنه شيخنا ولا نستطيع أن نرفض له طلباً .. راح العم عبد الجواد يجول القرية بصوته القوي .. شارع شارع .. وحارة حارة يردد ويقول :
- يا أهل سامول .. العقبى لكم .. زواج سلطان من ست البنات غداً والدعوة عامة .
وعلقت مناديل الفرح .. وارتفع الصارى أمام الدار وعلت الزغاريد .. وفي الليل كان موكب العروسين رائعاً ساعة جذبني محي الدين لأرقص معه بالعصا .. رقصنا وقتاً طويلاً .. وضحكنا من قلوبنا حتى دمعت الأعين .. وفي ظل هذه الفرحة الغامرة .. جاءنا صوت منصور باشا خولي المصلحة من بعيد .. وهو يبارك العروسين .. ثم شاركنا الرقص بعصاه .. لكنه بعد ثوان معدودة ودون أن يلفت الأنظار خاصة سلطان وعروسه .. همس في أذني :
وصلت إشارة من الجيش إلى العمدة .. تفيد بأن محمود بن حامد المراكبي تعيش أنت .. الجثة على وصول .. والعمدة والشيخ أبو المجد ينتظرانك عند البوابة العمومية .
فانطفأت الأنوار وانعقدت الألسنة حتى عن الكلام .. واصطحب سلطان عروسه خلسة إلى داخل الدار .. أما أنا فحملت مشعلي واتجهت به إلى أول الطريق .. وهناك جلسنا جميعاً أمام المستشفى الجديدة في انتظار وصول جثة الشهيد .. والتي وصلت مع أول طلوع الصباح .
  

9
يوسف الأعرج خاب يا أولاد .. وباع حماره سنده في الحياة .. اشترى مذياعاً لا فائدة منه .. لقد خاب يوسف بفعلته تلك .. هكذا قال عنه الناس في قريتنا وقتها .
حكاية
يوسف الأعرج

كان لا يزرع ما نزرع .. ولا يفعل ما نفعل .. فإذا زرعنا القطن زرع هو الأرز .. وإذا زرعنا القمح .. زرع هو البرسيم وتاجر فيه .. إذ كان يبيع قيراط البرسيم الواحد بمبالغ كبيرة.. ولما لا وهو لا يربي من الحيوانات سواه .. وقليل من البرسيم يكفيه .
أغرب شيء في هذا الرجل غريب الأطوار .. أنه كان يعرف في كل شيء .. في السياسة والفن والرياضة .. ومع ذلك كان لا يرتدي سوى ملابس ممزقة و لا يهتم بحلق لحيته أو بتلميع حذائه المرقع .. وكان معروفاً بطاقيته السوداء التي يرتديها في مؤخرة رأسه .. وكان لا يصلي .. ولا يصوم .. يحب نفسه كحبه للمليم والقرش .
المهم أنه خاب وباع الحمار الذي كان سنده الوحيد في الحياة .. كان لا يفارقه لحظة واحدة .. لو غاب يوسف عن القرية يوماً أو بعض يوم .. غاب معه الحمار .. وإذا أراد الذهاب إلى الحقل امتطاه .. وفي أيام الحصاد كان هو سنده في تخزين المحصول .. لكنه خاب وباعه واشترى بثمنه مذياعاً كبيراً ورفاً بديعاً .. علقه على الحائط .. ثم وضع فوقه المذياع .. وكان هذا المذياع أول مذياع يدخل قريتنا سامول .. لذا هلع البعض من الناس وراحوا يتهمون يوسف بأنه قد جلب إلى القرية شيطاناً حديدياً .. واسمه مذياع .. يتكلم كما نتكلم .. الويل ليوسف .. وحتى عندما ذهب إلى العمدة طلب منه أن يوصي الخفراء بمباشرة داره في الليل .. حتى لا يسرق اللصوص المذياع .. نهره العمدة واتهمه بالفجور والتلف . ولما اشتدت الحرب في فلسطين وكثرت الحكايات عنها .. وعرف الكل أن مذياع يوسف .. هو الذي يأتي بأخبار الحرب التي يدور بها يوسف في القرية .. وأن المذياع .. ما هو إلا شيء من صنع الإنسان .. فما كان أمامنا إلا أن نعقد صلحاً معه .. كي يسمح لنا في الليل بعد أن نعود من حقولنا .. بالذهاب إلى داره ونستمع إلى مذياعه .. وفي الليل .. يحلو السهر .. وأمام المذياع والاستماع إلى أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد ونجاة تختفي الأحزان ويذوب التعب .. فتعلو الضحكات ويصفو البال .. ويتلألأ مشعلي في الذهاب والإياب .. ولا شيء يعكر الصفو إلا دفع المليم في نهاية السهرة إلى يوسف .. فالمليم كان نصف أجرة الرجل أو يقارب في وسية الأميرة .. حتى العمدة غدا يذهب لسماع المذياع بعد أن يكون قد سبقه أحدٌ من الخفراء إلى دار يوسف .. كي يعلن عن قدومه .. فتخلو الدار فوراً .
ويوماً بعد يوم .. صار يوسف محط اهتمام الجميع في القرية .. فكان ينزل له الراكب ويقف له الجالس .. ويشاوره في الأمر مَنْ أراد المشورة .. ولما لا .. أليس هو صاحب المذياع الذي ينقل أخبار العالم إلينا ؟ أليس هو صاحب الرأي فيمن سيدخل داره ومن لا يدخل خاصة بعد أن اشترى مذياعاً ثانياً جلب له مالاً أكثر وشهرة أكبر .. فصار يقرض الناس بربح يزيد عن المائة في المائة .. ثم جلس مع النبلاء كواحد من الأثرياء الوجهاء الذي يمتلكون الكارتة والدار المدهونة العالية البنيان .. وليس ذلك فحسب .. بل صارت داره علامة من علامات القرية التي وجب عليها تشديد الحراسة .. وفجأة ترك القرية ورحل .. رحل بعد أن باع كل ما يملك لغبريال دون أن يشعر واحد من الناس .. وكان ذلك قبل قيام الثورة بشهور قلية .. ومن يومها ولم نسمع عنه إلا حكايات يحكيها واحد ويكذبها آخر .
  
10

وخرجت الناس إلى الشوارع يهتفون ويهللون فرحين .. فمن كان لا يمتلك الأرض .. صارت له ارض يزرعها .. لذا فكان من الضروري أن أتقدم الناس بمشعلي وأهتف معهم .
حكاية
أرض فضيلة
حتى غبريال الذي لم تنته خلافاته ومشاغباته مع فضيلة .. صار أيضاً يمتلك أرضاً .. بل صار جاراً لفضيلة .. جاورها في الأرض .. فازدادت المشاكل بينهما بإلقائه نفايات أرضه في أرضها .. وكثيراً ما كان يحاول طمس الحد الفاصل بين الأرضيين .
غبريال ما كان يستطيع فعل أشياء كهذه .. إلا بسبب تطوع عبد الغني زوج فضيلة .. مع ولدي سلطان وكثيرين من أبناء القرية .. في الحرب ضد العدوان .. وأيضاً لصغر سن ولدها بركات وبنتها زهرة .. ولكنها تحملت بشجاعة وصبر كل استفزازاته .. وعلقت آمالها على عودة زوجها .. الذي عاد مع انتهاء الحرب مريضاً ولا يستطيع فعل أي شيء .. حتى مات في فراشه بعد عامين .. وفقدته للأبد كما فقدت أنا سلطان في الحرب .. تاركاً لي ولده محمود.
واستمرت استفزازات غبريال .. بل زادت عندما كان يذهب إلى الأرض في الليل هو ورجاله .. ويثقبون جسر أرض الأرز فينصرف الماء مَنْ خلاله .. وتجف الأرض ويصبح الأرز عطشاناً .. كل هذا وما كان أحد يستطيع القول مع فضيلة بأن الفاعل غبريال .
وكيف يجرؤ أحد على قول شيء كهذا .. وغبريال قد كثرت شروره .. خاصة بعد أن قام أحد ثيرانه .. اقصد رجاله الأربعة .. بضرب أحد الخفراء .. وبعد أن سطا على الجرن الواسع الذي كان أمام داره .. وبنى به دواراً كبيراً .. العمدة نفسه يعمل لغبريال ألف حساب .. لكن فضيلة قررت شكواه للعمدة .. وبالفعل تقدمت ببلاغ مفصل بكل ما يفعله غبريال معها .. لكن العمدة لوى عنق الحقيقة واتهمها بإثارة البلبلة وافتعال المشاكل مع جارها .. ولما جائتني لتستنجد بي .. ذهبت معها لأرى ما فعل غبريال بالأرض .. وأكون شاهداً معها أمام العمدة .. كان مشهداً صعباً .. القطن مداس بأقدام البشر والبهائم .. عيدان القطن واقفة محنية إلى الأرض .. أو مكسورة العنق .. روث البهائم صبغ القطن الأبيض باللون الأسود .. صرخت بأعلى صوتي على الفلاحين بالأراضي .. لكن أحدا لم يأت .. أو حتى رفع ظهره عن فأسه ونظر إلينا .. ولم يأت سوى غبريال ثائراً .. مهرولاً يسب ويلعن في فضيلة .. ولما وصل إلينا.. كنت أنا وهي واقفين على رأس الأرض .. وكان هو ممتطياً حماره .. ويفصل بيننا وبينه قناة الري الصغيرة .. في البداية اخذ يتحدث الىّ بهوادة ولين :
- كن في حالك يا جدنا مشعل .. أنت ليس لك صالح بما يحدث .
- وكيف أكون في حالي وأنت على هذا الظلم ؟! اسمع .. أنني أحذرك .. ابتعد عن فضيلة يا غبريال وعن أرضها .. فهي ابنتي وأرضها ارضي .. وأنا الذي سأقف أمامك .
ولم يتحمل غبريال مجرد وقوفي إلى جوار فضيلة .. اخذ يسبني بل وقفز من فوق حماره إلى الأرض .. ثم شمر جلبابه الحرير إلى أعلى بعد أن تراجع للخلف خطوتين .. ثم قفز من فوق القناة نحونا .. وعلى الفور وبدون تردد .. قابلناه أنا وفضيلة بأيدينا في وجهه .. فسقط في وسط القناة .. والدم ينزف من انفه وفمه .. عند هذا الحد راحت عيون الفلاحين ترقبنا وهي قلقة علينا . كانوا ينظرون إلينا تارة فيجدوننا واقفين على رأس الأرض .. وتارة إلى غبريال الراقد في وحل القناة .. والذي يحاول النهوض .
في هذه الأثناء حاولت فضيلة النزول إلى غبريال .. غير أنني جذبتها إلى أعلى .. لكنها لم تسكت وراحت تحذره .
- إياك يا غبريال تحاول الاقتراب من أرضي مرة ثانية .. لن اسكت .. وسأعاملك بالمثل .. العين بالعين والسن بالسن والبادي اظلم .

11
الصراع لم يتوقف بين فضيلة وغبريال .. بل اشتد واستمر لسنوات طويلة .. كبر خلالها بركات وزهرة .. ومحود ابن سلطان .
حكاية
عودة الحــق
ولما عادت فضيلة من عند العمدة .. عادت ككل المرات السابقة .. حزينة ذليلة منكسة الرأس .. فالعمدة ما زال لا يحرك ساكنا تجاه غبريال بالذات .. حتى أنه لم يكلف خاطره بالذهاب إلى الحقل .. ليعاين معنا كيف نقل غبريال الحد الفاصل بين القطعتين إلى داخل قطعة فضيلة .. كي يحتل جزءاً كبيراً منها .
- سأعيد الحد بنفسي .
وقبل أن يضرب بركات الحد بفأسه .. كان قد التف حوله رجال غبريال .. فأنزل فأسه إلى جواره .. وعلى الفور جريت نحوه وجذبته من بين مخالبهم .. إلا أن غبريال اتجه إلى فضيلة وهزها من كتفها هزات عنيفة .. كادت تسقط خلالها على الأرض.
- فضيلة .. هدئي ولدك وإلا .. اسمعي .. عليك بالعمدة .
ثم أخذ يضحك ويضحك حتى وثب فوق حماره واتجه إلى القرية .
ومن الأرض المنهوبة إلى دار العمدة فوراً .. كان جالساً على مقعده حزيناً .. حتى أنه لم يشعر بوجودنا داخل الدوار .. مال علينا سلامة الخفير وهمس :
- اتركا العمدة الآن .. إنه .....
لكن فضيلة ما كانت تود الاستماع إلى أي حديث .. وعلى الفور اندفعت إلى العمدة وراحت تصرخ في وجهه .
- قانونك ظالم يا عمدة .. والسكوت على الظلم .. ظلم آخر .. أنت لست في مأمن .. وسيطولك ظلمك ذات يوم .. أفق يا عمدة قبل أن يبتلع غبريال كل شيء حتى أنت .
ويا لدهشتي وأنا أرى العمدة يبكي وسلامة الخفير يربت على كتفه .. ماذا حدث؟ وماذا سيحدث بعد ذلك يا عمدة .. وإلى أي الطرق تجرنا يا غبريال ؟ وظللت بعدها أياما طوية أجول برأسي ذات اليمين وذات الشمال .. أحاول البحث عن مخرج أو حيلة نستعيد بها الأرض المسلوبة .. وذات يوم .. إذا كنت احلم .. احلم وأنا جالس .. كان المشعل قابعاً في الركن أمام عيني .. وشريط الذكريات يبدأ من المشعل ويمر أمام عيني وبرأسي .
العين بالعين والسن بالسن والبادي اظلم .. قالتها فضيلة لغبريال في بادئ الصراع .. ولم أشعر بنفسي إلا وأنا حاملاً مشعلي ومتجهاً به إلى دارها .. كانت راقدة تشتكي من الصداع.. وكان بركات وأخته زهرة يجلسان أمام الطعام البارد في الأطباق ولا يأكلان .. استحلفتها أن تبقى على راحتها .. فأنا مثل أبيها .. لكنها رفضت واعتدلت في جلستها .
بركات .. زهرة.. اسمعوني يا أولاد .. في الليل وعندما يصبغ الظلام كل شيء بالأسود .. ساعة تنظر في كفلك ولاتراه.. سنكون جميعاً عدا زهرة في الأرض .. بالمناسبة، محمود بن ولدي سلطان سيأتي معنا .. كل واحد يحضر فاسه .. سنعيد الحد الليلة وسنسترد الأرض .
وغبريال .. هل سيسكت ؟ .. لا لا يا جدي .. أنا ما عدت احتاج للأرض .. حياة بركات وزهرة تساوي عندي كل شيء .
- أمي .. أول مرة أراك بهذا الضعف .. غبريال لا يستطيع أن يمس شعرة مني أو من أختي .
- اسكت يا بركات يا ولدي .. غبريال لن يسكت .
- ماذا حدث ؟ .. أنا لا اصدق ما أسمع .. هل نسيتي ؟ العين بالعين والسن بالسن والبادي اظلم يا غبريال .
- الله أكبر .. ينصر دينك يا جدي .. ينصر دينك يا جدنا شمس .. اقصد يا جدي مشعل قالها بركات وراح يقبلني من شدة سعادته بالفكرة .. ثم اتجه إلى أمي واخذ يقول لها كلمات ألهبت حماسها .. عند هذا الحد .. نهضت أنا ورفعت الطعام البارد في الأطباق واتجهت به ناحية المطبخ .. إلا أنهم جميعاً اندفعوا نحوي .. وأخذت فضيلة الطعام من يدي .. ولم تمر سوى دقائق معدودات حتى عادت إلينا بالطعام ساخناً شهياً .. وأخذنا نأكل منه بنهم دون توقف ، حتى سمعنا الباب يُطرق .. كان سلامة الخفير .
- أنت هنا يا جدي .. يا لحظي السعيد .. على أية حال مبروك .. حفيدك محمود صار رجلاً .. وبركات أيضاً يا فضيلة .. انهما مطلوبان غداً للجيش .. موعدنا قبل طلوع الشمس مباشرة يا بركات عند المستشفى في أول الطريق .. سيكون معك إن شاء الله السيد حسب النبي وزغلول صلاح وحمدي حماد وزكريا إسماعيل ومسعد العربي .
كانت مفاجأة قاسية علينا جميعاً .. فجّرها سلامة وراح ولم يترك لنا سوى الحيرة وسؤالاً لم نجد له إجابة .. حتى السماء التي كانت تطل علينا من الشباك .. صارت عبوساً .. وكأنها تعاني مَنْ الألم في الأحشاء .. وتود لو تنفجر .. أخذت فضيلة تتطلع بإمعان إلى بركات وكأنها لم تره من قبل .. حتى انسال الدمع من عينيها .. ثم أخذت وجهه بين
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://samypress.blogspot.com
 
حكايات الجد مشعل رواية للطفل محمود عبد الله محمد
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» رواية عيون تلمع كل خريف ( محمود عبد الله محمد )
» ترجمان رسول الله قصة / محمود عبد الله محمد
» شهادة حق قصة / محمود عبد الله محمد
» بئر الأشباح قصة محمود عبد الله محمد
» نجار رغم أنفه قصة محمود عبد الله محمد

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
عالم سمسم للمسرح  :: قسم الرواية-
انتقل الى: