نسيج آخر قصة / وفاء عبد الرزاق

نسيج آخر

هل تعرف كل سائق باسمه؟ هل تعرف كل الناس؟

من أين لها هذا الطيران العميق الواثق الخطى؟

تعرفهم كلهم، لم أرها يوماً لا تخاطب أحداً منهم بل هم يعرفونها، يدخلون معها في حوارات لا أفهم لغتها.

مرة بالهندي ومرة بالإنكليزي المكسور ومرات بصياح لا غير، مجرد صياح لتثبت لنفسها أنها موضع اهتمام ولها أصحاب يفهمون لغتها.

الثياب نفسها، شال صوفي قديم على رقبتها، بلوز صوفي وسترة جينز أكبر من مقاسها بحجمين.

كلـّما رأيتها ربطتُ بينها وبين رجل يسكن شارعنا في البيت الرابع قبل بيتي، شكله شرقي بملابس رثـّة ربما الملابس جعلتني أجمع بينهما.

هو مختلف يصحو من الصبح حاملا بيده علبة بيرة يذرع الشاعر ذهاباً وإياباً، يفتش في حاويات القمامة عن بقايا سجائر مرمية أو يفتش عن تذاكر للمترو، أحياناً يصعد بتذكرة منتهية الصلاحية مثله انتهى منذ زمن فما عاد يملك من الحياة غير سكره ومحاكاة نفسه.

هي مختلفة أيضاً صحيح تشبهه في خصلتين: الثرثرة والملابس القديمة لكنها ليست سكيـِّرة ولا عاطلة عن العمل.

حين شاهدتـُه أول مرة خلتـُه مخـتـلّ العقل لذلك أتحاشاه ولا أرد على سلامه.

سلامه غير واضح مجرد خنّ، أكره رائحته وأكره أكثر بنطلونه المتعفن بالبول.

هي لا تشبهه نظيفة رغم عوزها عفيفة رغم فقرها، لم أرها قط دون كيس من النايلون السميك مملوء بأشياء مختلفة لا علاقة لها ببعض.

أين تذهب في الصباح وإلى أين ترجع في الليل؟ هل لها أولاد؟ إذا كان الرد على سؤالي بالإيجاب لماذا يتركون عجوزاً ملتوية الرقبة كأنَّها ترى ظهرها؟ وأين هم عنها؟

افترضتُ أنها تعيش وحدها ومن نشاطها رغم اعوجاج رقبتها وانحناء ظهرها تيقنتُ أن لها عملا تتقاضى منه راتباً يقيها حاجتها لابن أو اسم ذكر.

بينما هو يعيش على نفقة الدولة ليسكر.

هي تعيش من عرق جبينها لتعيش بكرامة.

هو وحده، شريكه هذيانه ونفور الناس منه.

هي مع كل الركاب.

بين هو وهي مازلتُ حائرة هل أسألها عن مكانها أم أسكت؟

لأني إذا فتحت باب فمها لا ينغلق.

وحدي في بيتي لا أسمع صوتي ولا يسمعني، يخرج مبحوحاً حين يرن الهاتف العقيم، وقتها أفرح وأقول سأجرب صوتي، صرتُ أخشى على حنجرتي من عدم استعمالي لها.

هما يختلفان عني بالثرثرة وأنا مختلفة عنهم بالصمت.

قطعاً لا يشبهانني في كل شيء قطعاً.

قطعاً نتشابه في أهم شيء، بالفقدان.

على شفتي ثلج وعلى صدري شيخ يسعل.

أعتقدُ كل الاعتقاد أنهما حين سكنا المنطقة وقت كان المشي ذاتياً ومعتدلاً، والبنطلون نظيفاً بلا بول، والعقل سليماً قالا لمتشابهَين في الضياع كقولي عليهما الآن: لابد أن أعرف حكايتهما. اثنان يتبادلان المواضع كلما دب بالدرب سكون.

وأعتقد بل أجزم بعد أربع سنوات ستسكن نزيلة جديدة في بيت جارنا تضحك بمرح وتمشي بقامة مرفوعة، تضع شالاً زهري اللون كما أحبه أنا.

حتماً ستقول حين أخرج بعكـّازي: كانت هنا امرأة ينام على صدرها الصباح.

عدد المساهمات : 68 تاريخ التسجيل : 26/12/2010

قصة رائعة شكرا لاختيارك الرائع وتحياتى للرائعة وفاء عبد الرزاق

» وفاء عبد الرزاق ...حبة من عقد اللؤلؤ
» لها ، لى ، لا أعرف قصة / وفاء عبد الرزاق
» مزّميهراء قصة / وفاء عبد الرزاق
» ( أربـَكـَني جذعُكِ ) شعر / وفاء عبد الرزاق
» سائق بالمقلوب قصة وفاء عبد الرزاق